shadow Admin
عدد الرسائل : 542 العمر : 30 تاريخ التسجيل : 22/07/2008
| موضوع: سيرة الرسول صلى اللة علية وسلم (الجزء السادس) 2008-07-24, 17:28 | |
| آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم:
حجة الوداع: ماذا بقى من رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تمت للإسلام أركانه، وشيد بناؤه، وأقيمت حدوده؟، ماذا بقى بعد أن أصبح للإسلام أمة تجسد بسلوكها مبادئه وتفترش جزيرة العرب بأسرها؟، ماذا بقى سوى أن يلتقى النبى بأتباعه فيأخذ منهم الشهادة على أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ثم يودعهم بنظرة أخيرة؟ ثم أين يكون مكان اللقاء إن لم يكن بمكة بلد الله الحرام؟ وأى مناسبة إذًا أفضل من حج بيت الله حيث اجتماع المسلمين وإقامة الشعيرة التى هفا لها فؤاد المصطفى -صلى الله عليه وسلم؟. إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- الذى ودع معاذًا حين أرسله إلى اليمن قائلاً: يا معاذ، إنك عسى ألا تلقانى بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبرى- إن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين قد شعر أن رسالته شارفت على نهايتها، وأن خاتمتها صارت قريبة؛ فأعلن للناس بحجة، وتهيأ لها، ثم ارتحل قاصدًا مكة، وبعد أن أقام جزءًا من شعيرته توجه إلى منى، وفوق جبل النور كانت خطبته الخالدة التى حفظتها الصدور، ووعتها العقول، وانطلق -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك إلى المزدلفة، ثم عاد إلى مكة؛ ليتم حجه، ويرجع إلى مدينته المنورة فى ختام رحلته الأخيرة -صلى الله عليه وسلم-.
خطبة الحج: يا له من مشهد مهيب! نبى الله الخاتم، يقف خطيبًا فى الناس، وآذان مائة ألف وأربعة وعشرين أوأربعة وأربعين ألفًا من المسلمين ترهف سمعها لكلماته، وعيونهم معلقة به أو متجهة نحوه، وإنه لمشهد عجيب لحجيج العرب، الذين ألفوا التصفيق والضجيج فى عبادتهم لا يسمع بينهم إلا صوت النبى -صلى الله عليه وسلم- أو صوت المبلغ عنه ربيعة -ربيعة بن أمية بن خلف الذى كان أبوه يعذب بلالا-، وتتالت كلمات محمد -صلى الله عليه وسلم- تخرج من فمه الشريف فتطهر القلوب وتغسل عنها أدرانها، وتجلو الأبصار وتنير لها طريقها: أيها الناس، اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، ألا كل شىء من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله فى النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، أيها الناس، إنه لا نبى بعدى، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا أولات أمركم، تدخلوا جنة ربكم، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟ فارتجت جنبات الوادى بقول المسلمين: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبابته إلى السماء قائلاً: اللهم فاشهد، يرددها ثلاث مرات. ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم نزل عليه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتى، ورضيت لكم الإسلام دينًا). وهكذا تمت الرسالة التى أداها محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين كاملة تامة، وآن للأمة بأسرها، ولكل مسلم بها أن يحملها كاملة غير منقوصة، وانهمرت الدموع من عينى عمر بن الخطاب فقيل له: ما يبكيك؟ فأجاب: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان! فرحم الله عمر، ما أثقب فهمه، وأبعد نظره!.
آخر البعوث: عاد خاتم أولى العزم من الرسل إلى المدينة؛ ليواجه مشكلة جديدة، فالروم وكنيستها لا يعجبها دخول العرب المتاخمين لحدودها فى دين الله الحنيف، وقد قرروا قتل كل عربى يدخل فى الإسلام، وما كان للنبى -صلى الله عليه وسلم- أن يدع الناس تظن أن الإسلام يجر عليهم الحتوف، وأن الحق صار لا قوة له، فأخذ -صلى الله عليه وسلم- يجهز جيشًا كبيرًا فى صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة وأمر عليه أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والدارون من أرض فلسطين لإرهاب الروم، وإعادة الثقة إلى العرب الضاربين على الحدود، ولكن أزمة عارضة بدأ النبى -صلى الله عليه وسلم- يسمع خطوات مقدمها، ولم تكن هذه المرة من خارج الحدود بل من داخل المدينة، فقد ظهرت فى الأفق بوادر معارضة من المسلمين لإمارة أسامة، واحتوى النبى -صلى الله عليه وسلم- هذه الأزمة فانتظم الجيش، ونزل بالجرف على فرسخ من المدينة، إلا أن أخبار مرض النبى -صلى الله عليه وسلم- قد جعلتهم يتمهلون فى الخروج، فمكثوا حتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- وكان خروجه فى أول خلافة أبى بكر الصديق.
وفاته -صلى الله عليه وسلم-
ما أعجب هذا القلم، حين يتردد الآن عن كتابة وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم-. ألم يكن يعلم منذ اللحظة الأولى، التى بدأ فيها سرد حياته أنه مات؟! أم غاضب هو من هذا الموت الذى ظل وسيلتنا الوحيدة للقيا الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ؟! لكن لعلها الذكرى تتجدد، فتهيج بريحها العاصف أشواق اللقاء، وهو أمر لا حيلة لنا معه! إلا أن نذكر أن كلماته باقية حولنا، وسننه ووصاياه وهديه بين أيدينا، ثم وعده بوصال لا ينقطع، فى جنة عرضها السماوات والأرض، بادٍ أمام أعيننا. شعر محمد -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله، ولم يمض إلا قليل حتى داهمه المرض. فانتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى دار عائشة، ولم يشغله مرضه عن المسلمين، فأخذ يمهد لهم الأمر، حتى يتهيئوا لوفاته، ولا ينزعجوا لفراقه. وفى هذه الساعات العصيبة، لم ينس أيضًا -صلى الله عليه وسلم أن يودع عقول المسلمين وأفئدتهم وصاياه الأخيرة. واشتد المرض عليه -صلى الله عليه وسلم- حتى أقعده، فأمر أبا بكر أن يصلى بالناس، وتخلص من آخر متاعه بالدنيا قبل يومه الأخير بليلة واحدة، وهو اليوم الذى لم يرتفع فيه أذان الظهر، إلا والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- مُسَجَّىً فى فراشه قد أصابه الاحتضار. وتسرب النبأ الأليم، فجزع الصحابة، وحزنوا حزنًا أضاق عليهم أفق المدينة، وأظلم عليهم نورها، وهم ما بين مسلم بالخبر ومحتسب، ومنزعج للحدث غير مصدق، كان موقف أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما-، والذى تجاوزاه لينشغلا، بما يعتقدانه مراد محمد -صلى الله عليه وسلم- فى اجتماع كلمة المسلمين وأمرهم، فكان اختيار أبى بكر لخلافة المسلمين، وهو العمل الذى سبق تجهيز النبى -صلى الله عليه وسلم- وتوديع جسده الشريف. وبموته -صلى الله عليه وسلم- انقطع الوحى والنبوة عن الأرض، لكن بقى سراجهما منيرًا للعالمين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
بداية المرض: بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائدًا فى طريقه من جنازة شهدها بالبقيع، فى اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إذ بصداع أليم يأخذ رأسه، وقد اتقدت حرارته، حتى إنها كانت تحس من فوق العصابة، التى تعصب بها رأسه. لكنه -صلى الله عليه وسلم- تحامل على نفسه وصلى بالناس مريضًا أحد عشر يومًا، حتى أقعده المرض عن ذلك.
فى دار عائشة: جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أزواجه: أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟، ففهمن مراده، وعلمن أنه -وهو النبى العظيم- يستأذنهن، فأذنَّ له أن يكون حيث يشاء فالمرض قد ثقل به، ولن يستطيع أن ينتقل وهو بحاله تلك بين دور نسائه، وإلى دار عائشة بنت أبى بكر الحبيبة بنت الحبيب كان المسير. يمشى -صلى الله عليه وسلم- بين الفضل بن عباس وعلى بن أبى طالب، عاصبًا رأسه، تخط قدماه، حتى دخل بيتها، فقضى به أسبوعه الأخير، وهى -رضى الله عنها- تقرأ بالمعوذات والأدعية التى حفظتها عنه، ثم تنفث على نفسه، وتمسحه بيده رجاء البركة.
تمهيده الأمر للمسلمين: بعد أن قال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى حجة الوداع: إنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا؟، وبعد أن أعاد قوله عليهم عند جمرة العقبة حين قال: خذوا عنى مناسككم، فلعلى لا أحج بعد عامى هذا. خرج -صلى الله عليه وسلم- فى أوائل صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد، حيث مثوى شهداء المسلمين، الذين قدموا كل شىء، ثم ماتوا دون أن تنعم أعينهم بفرحة الفتح أو لمحة النصر، وقف -صلى الله عليه وسلم- أمامهم مصليًا، ثم انصرف إلى منبره فقال: إنى فرطكم، وإنى شهيد عليكم، وإنى والله لأنظر إلى حوضى الآن، وإنى أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإنى والله ما أخاف أن تشركوا بعدى، ولكنى أخاف عليكم أن تنافسوا فيها. ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- فى إحدى ليالى صفر إلى البقيع، مخاطبًا أهله بقوله: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه، مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى. ثم بشرهم قائلاً: إنا بكم للاحقون. أما قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، فإنه قد صعد المنبر، وخطب فى المسلمين يوصيهم، ثم أردف قائلاً: إن عبدًا خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده. وهنا لم يتمالك أبو بكر نفسه، فانفجر باكيًا، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وتعجب الناس من بكاء الصديق، الذى أدرك ببصيرته، أنه -صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وأنه اختار اللحوق بالرفيق الأعلى.
وصاياه الأخيرة: قبل وفاته -صلى الله عليه وسلم- بخمسة أيام، اتقدت حرارة العلة ببدنه، واشتد به الوجع حتى غمى، فقال: هريقوا علىّ سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم. فأقعدوه فى مخضب، وصبوا عليه الماء، حتى طفق يقول: حسبكم، حسبكم. وشعر بخفة، فخرج إلى الناس، معصوب الرأس وجلس على المنبر، وعيون المسلمين معلقة به، وأجسادهم كأنما تسمرت فى أماكنها، ينصتون إلى ما يقوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فى آخر وصاياه، وتتابعت تلك الوصايا وتلاحقت: لا تتخذوا قبرى بعدى وثنًا يعبد، من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهرى فليستقد منه. أهذا ما تخشاه يا محمد -صلى الله عليك- قبل أن ترحل عن الدنيا؟ أن تكون ظلمت أحدًاً من الناس، وأنت من حمل إليهم الخير كله، وتحمل فى سبيل ذلك من العذاب ألوانًا!. ونزل صلى الله عليه وسلم- فصلى الظهر، ثم رجع إلى منبره، وطالعت عيناه وجوه الأنصار، الذين ابتاعوا بدنياهم رجلاً فقيرا مطرودًا من بلده، يسعى فى إثره أشاوس قومه وطغاتهم لثقتهم أنه نبى الله، فقال: إن الناس يكثرون وتقل الأنصار، حتى يكونوا كالملح فى الطعام، فمن ولى منكم أمرًا، يضر فيه أحدا أو ينفعه، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأعلمهم أنه اختار ما عند الله على زهرة الدنيا، ثم أوصى بالصديق فقال: إن آمن الناس على فى صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لايبقين فى المسجد باب إلا سد، إلا باب أبى بكر، وفى اليوم التالى أوصى-صلى الله عليه وسلم- بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصى بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، وأراد أن يكتب للمسلمين كتابًا لا يضلوا بعده، لكن عمر قال: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فلما أكثروا اللغط قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: قوموا عنى.
التخلص من آخر المتاع: بقى من الزمن يوم واحد، ويغادر محمد -صلى الله عليه وسلم- دنيا الناس إلى جنات ربه، وأدارالرسول -صلى الله عليه وسلم- بصره فى حجرته البسيطة، فوقعت عيناه على متاعه من الدنيا، ممتلكات نبى آخر الزمان، من بلغت حدود دولته بلاد الفرس والروم، ودانت له جزيرة العرب بأطرافها، فماذا وجد؟، غلمانًا كان أحن عليهم من والد، وسبعة دنانير، وعدة حربه من السلاح، فأعتق الغلمان، وتصدق بالدنانير، ووهب سلاحه للمسلمين. وفى الليل استعارت عائشة الزيت للمصباح من جارتها، وكانت درعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعًا من الشعير.
اليوم الأخير: بينا المسلمون صفوف خلف أبى بكر، يصلون فجر الإثنين الثانى عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، إذ بستر حجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرفع، وإذ بوجهه المنير ينظر إليهم متبسمًا، وفرح المسلمون بما رأوا، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم أرخى الستر على حجرته، ولم يدروا حينئذ أنها المرة الأخيرة، التى يرون فيها وجهه الكريم -صلى الله عليه وسلم-. فحين ارتفع الضحى، دعا محمد -صلى الله عليه وسلم- فاطمة ابنته، ثم سارّها بشىء فبكت، فدعاها وسارّها بشىء آخر فضحكت!، أما ما بكت لأجله، فكان إخباره إياها أنه يقبض فى وجعه الذى توفى فيه، وأما ما ضحكت منه، فكان بشارته لها أنها أول من يتبعه من أهله، وغشيه -صلى الله عليه وسلم- كرب شديد مما يجد، فقالت فاطمة متأوهة: واكرب أباه، فأجابها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا، ثم دعا أزواجه فوعظهن وذكرهن، وأخذ الوجع يشتد ويزيد عليه فقال لعائشة: ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم، وكانت آخر وصاياه، التى أخذ يرددها مرارًا الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم.
يتبع (الجزء السابع) shadow عالم من الابداع و التميز | |
|